بعد فتح خيبر وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود في الأسر . وكان أبوها وأخوها وزوجها قد قُتلوا جميعًا في المعركة . وطبقًا لما تعارف عليه العالم كله آنذاك كان من الطبيعي أن تكون صفية كغيرها من السبي جارية يستعبدها من قهر أباها في الحرب ، لأنه لو كان أبوها هو المنتصر لفتك بسبايا المسلمين ولم يبق منهن نسمة كما يفعل اليهود المجرمون في كل مكان وزمان .. قال دحية الكلبي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد المعركة : "يا رسول الله أعطني جارية من سبي يهود" . فقال له عليه السلام : "اذهب فخذ جارية" ، فذهب دحية فأخذ صفية ، فرآها الصحابة فعرفوها ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سِراعًا هاتفين : يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير ، ما تصلح إلا لك . فأعطى الرسول لدحية عوضًا عنها وضمها إليه .. ومن المهم هنا أن نسجل مَكْرَمة تخفى على كثير من الناس ، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ صفية جارية كعادة الأمم الأخرى ، بل بدأ عليه السلام بتكريم مثواها ، ثم خيَّرها بين العتق وإطلاق سراحها إن أرادت البقاء على يهوديتها والرحيل معززة مكرمة إلى المكان الذي هرب إليه بقايا قومها ، أو الإسلام والزواج منه بعد عتقها أيضًا .
ففي جميع الحالات أعتقها عليه السلام سواء تزوجته أم رفضت الزواج منه . وهكذا هو الإسلام يجبر المكسور، ويعزّ به الذليل ، ويزداد الشريف به شرفًا . وافقت صفية رضي الله عنها فورًا على الزواج من النبي قائلة : "يا رسول الله لقد هويت الإسلام ، وصدّقت بك قبل أن تدعوني ، وخيرتني بين الكفر والإسلام ، فالله ورسوله أحب إلي من العتق ، ومن الرجوع إلى قومي" .. فتزوجها عليه السلام وجعل عتقها صداقها .
ويعلق الإمام ابن القيّم رضي الله عنه على ذلك بقوله : "جعل عتقها صداقها، فصار ذلك سُنَّة للأمة إلى يوم القيامة أن يعتق الرجل أمته ويجعل عتقها صداقها ، فتصير زوجته بذلك . فإن قال الرجل : جعلت عتق أمتى صداقها صح العتق والنكاح ، وصارت زوجته من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي . وهو ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث . انتهى .
بركات السيدة مارية
يثير الحاقدون على الإسلام موضوع تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته السيدة مارية القبطية .. ويزعمون أنه لو كان نبيّا حقًا لما فَعَلَ هذا !! والرد على هؤلاء ميسور بإذن الله .
ونقول أولا : أن التمتع بملك اليمين – الجواري – كان في شريعة الأنبياء من قَبله عليهم جميعًا الصلاة والسلام .. فقد عاشر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام السيدة هاجر – المصرية أيضًا – بملك اليمين ، وأنجبت له سيدنا إسماعيل جد العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك كان لإسحاق ويعقوب وداود وسليمان عليهم السلام عشرات من الجوارى ، ولم يطعن أحد من الحاقدين عليهم بسبب ذلك!! فهل تمتعه صلى الله عليه وسلم بجارية وحيدة هي السيدة مارية – حسب الراجح من أقوال العلماء – يعد أمرًا غير حميد ؟! ولماذا لم يتفوه أحد بكلمة ضد تمتع أخوته الأنبياء من قبل بالجواري ملك اليمين ؟!! إنه الحقد على الإسلام وحده والكراهية المقيتة لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده . ثم لننظر ولنقارن حال السيدة مارية قبل وبعد الإسلام لنعرف مدى كذب الحاقدين وإنكارهم للحقائق الثابتة .
ماذا كانت السيدة مارية قبل الإسلام ؟ مجرد جارية من جواري المقوقس – كبير نصارى مصر في ذلك العهد – لا يعرفها أحد ولا يهتم بأمرها أحد ، وكان أقصى ما سوف تناله أن يعاشرها سيدها بمصر من حين لآخر بلا أية حقوق لها أو لأولادها الذين كانوا سيصبحون عبيدًا كأمهم بلا ريب . أو كانت سوف تُبَاع لسيد آخر كما تُبَاع البهيمة أو المتاع ، وهكذا تنتقل من سيد إلى آخر ، تعمل طوال النهار في كل الأعمال الشاقة ، وتجبر ليلاً على ممارسة الجنس مع سيدها ، أو مع آخرين ينزلون ضيوفًا على السيد - كوسيلة من وسائل الترفيه - فضلاً عن تعرضها للضرب والأذى- وربما القتل- بلا ضوابط أو حدود أو قيود . ولكن الله تعالى أراد أن ينقذ المسكينة مارية من هذا الإذلال والإهدار للآدمية ، وأن يخلّدها في العالمين ، فأهداها المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا انقلبت الأحوال بقدرة الله عزّ وجلّ من النقيض إلى النقيض . فقد أنزلها النبي عليه السلام فى مسكن خاص مثل غيرها من نسائه ، وكان يجري عليها النفقة كالمأكل والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو عليها ويقربها إليه ويعاشرها كباقي زوجاته بمنتهى العدالة والنبل .
وشاء الله عزّ وجل أن يُنْعم على السيدة مارية بما لم تحظ به حتى السيدة عائشة أحب زوجات النبي إلى قلبه . فقد ولدت السيدة مارية للنبي أحب أولاده إلى قلبه وهو "إبراهيم" عليه السلام . والمعروف أن عائشة وحفصة وغيرهن من الحرائر من أزواجه لم ينجبن منه باستثناء السيدة خديجة رضي الله عنها والتي كانت قد توفيت بمكة . وهكذا حظيت مارية رضي الله عنها بالقسط الأوفر من المحبة والتكريم باعتبارها أم "إبراهيم" الولد المحبب إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم .
و من بركتها أيضا أنها كانت سببًا في تشريع عتق "أم الولد" وهي الجارية التي تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه الرحم ميتًا . إذ أنه فور علمه صلى الله عليه وسلم بمولد ابنه إبراهيم من مارية قال صلى الله عليه وسلم : "أعتقها ولدها" . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : "أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" أخرجه ابن ماجة في كتاب العتق ، والدارمي في البيوع(7) ، وأحمد في مسنده (
. فأي بركة تسببت فيها سيدتنا مارية ؟ وأي خير أصاب الملايين من الجواري على مر العصور بسببها ؟ إنها لم تتحرر وحدها بمولد إبراهيم فحسب ، بل حررت معها كذلك كل جارية تلد لسيدها ولو سقطًا غير مكتمل .
ثم هناك نعمة هدايتها للإسلام ، وأنها آمنت بالله وحده ربا لا شريك له ولا ولد ، وآمنت بنبيه الذي يحشرها الله معه في الجنة زوجة له مع أخواتها الأخريات . ولم يكن هذا هو كل ما في حياة السيدة مارية من بركات .. فقد أبى الله إلا أن تكون مارية المصرية سبب خير وبركة لأهل مصر كلهم .. روى الإمام مسلم- في فضائل الصحابة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا" . قال : ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام منهم ، وأم إبراهيم ابن النبي عليهم السلام منهم(9) انتهى. وكفى المصريين فخرًا أن يكونوا أصهارًا لإبراهيم ومحمد وأخوالاً لولديهما . وهكذا نالت السيدة مارية حريتها بالإسلام ، وصارت كذلك أمًا لإبراهيم أحب ولد النبي إليه ، وأمًا لكل المؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
و كانت لها محبة في قلب النبي غارت منها بسببها السيدة عائشة .. تقول السيدة عائشة : "ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية ، وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة – مكتملة الخلقة – وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان الرسول عامة الليل والنهار عندها حتى فرّغنا لها فجزعت-أى عائشة- فحوّلها عنا إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه" . انتهى . وكلمات السيدة عائشة واضحة الدلالة على عظم ما أنعم الله ورسوله به على السيدة مارية التي كانت جارية من قبل ، جبرًا لخاطرها ورفعًا من شأنها، بما لم تحصل على مثله أية واحدة من الحرائر